الجمعة، 18 مارس 2011

السجينة


مليكة أوفقير _ ميشيل فيتوسي

رواية جميلة تسرد مليكة في ثناياها بطولة رائعة من حياة عاشتها عشرين عاما هي وأفراد عائلتها بأدق التفاصيل । تصف فيها أشد نكسات الزمن إيلاما وهو السقوط من أرفع منازل العزه لأدناها . تضم الرواية تفاصيل جميلة تبين أن الرغبة وحدها كفيلة بأن تصنع المعجزات وأن تمهد الطريق ..أترككم مع مقتطفات من رواية السجينة : تعلمت ماذا تعني الحياة وماذا يعني الموت . أي طالع أشد سوءا من أن تكون امرأة في مجتمع لا يقدس إلا الفحولة ويقود بالعصا قطيع النساء . أنظر إلى العالم من خلال زجاج السيارات الفاخرة التي كانت تقلنا من قصر إلى آخر . لم أكن أعرف من أنا ومن أكون , ولأي زمان ومكان انتمي ؟ كنت اشعر بغربة دائمة تخنقني وتحول حياتي إلى جحيم لا يطاق . لأني كنت أنتقل فقط من باب السيارة إلى باب القصر أو العكس , إن مجرد باب كان يفصلني عن الدنيا. في تلك الأجواء السحرية الفاخرة تعلمت كيف أصبح أميرة . كنت أعيش في عالم كل شئ فيه ممكن , ومتاح , ومتوفر .. فوق العادة. لكن .. ما أقسى هذا التغيير , وما أشد وطأته . بين ليلة وضحاها , تنتقل من العز والجاه إلى الفقر والبؤس . علمتني الحياة أن لا نبني الكون ونعمره بالتصنع , والتملق , والزيف , والنفاق ,ولا بالمواقع , والمراكز , والمال والغنى, فكل هذا زائل وفاني لا محال . كما أن .. كل شئ يمضي ويمر , إلا أن يكون عدوك جزءا لا يتجزأ منك , وتلك هي المصيبة والهزيمة . لقد بدأت . في سن متأخرة جدا , أتعلم كيف أعيش على أرض الواقع , وأصبح امرأة عادية مثل سائر النساء. هنالك من هم في الداخل , وهنالك من بقي في الخارج , هنالك عالم يفرق بيننا وأسوار تفصلنا , حتى في أعماقنا لا شئ يجمعنا . علمني السجن أن الإنسان أقوى من الظلم والقهر والطغيان والحرمان والتعذيب والمستحيل. ما أبشع الشعور المرعب الذي طغى علينا ... الشعور بأننا لن نتذوق مطلقا طعم الحرية ... إنه سراب لن ندركه أبدا . كم كنت أتوق على الموت وأشتهيه , بات ذكره يؤنسني , وصرت أقضي الليل بكامله أناجيه . إننا نفضل العدم على القليل , والمضي في القتال على الاستسلام والخضوع ... إن سياسة أنصاف الحلول والانتظار والتسويف ... تدخل اليأس إلى قلوبنا ... وربما ستهلكنا . في ليلة من ليالي السهاد واليأس , خرجت إلى الساحة لأخفف حدة هذا البركان الذي يتأجج في صدري , ولأول مره منذ زمن بعيد بدأت أبكي . ورحت أفتش بين دموعي عن جواب .... جاوبني الصمت والسكون , لا أحد يسمع همس استغاثاتي و توسلاتي . لقد أنقذتني الصحراء من التهلكة ...لقد تعلمت منها أننا نحن بني البشر لسنا سوى عابري سبيل في هذه الحياة الفانية ..وبأنه لا ينفع التباكي على الماضي ... لا إطالة الوقوف على الأطلال ...وبأن أتقبل قدري بكل صبر وشجاعة , وأن أتخلى عن أقنعة الزيف والتصنع ...و أن أكون أنا ... وفقط أنا ... عوضنا عن التباكي على الذات , كان يراودني إحساس جارف بأن قدري تحسن , وبات أفضل , بالرغم من كل ما يواجهنا من ويلات ومخاطر . إننا ندين بذلك إلى ما بذلناه من جهود .وما نمتلكه من نفاذ بصر . كان الملك قويا جدا ... وكنا نحن ضعفاء جدا ... ألا يحق لنا على الأقل أن نشعر بالرضا لأننا تمكنا من لي ذراعه . أي معايير أخلاقية غريبة تلك التي تبيح له أن يفرض , خلال خمس عشرة سنة , كل هذه الأهوال والويلات على أطفال أبرياء ؟ هل هنالك في العالم قانون يقضي بإنزال العقاب بذرية المجرم . الحقيقة وحدها تكفي لتدمر هذا الجائر ... يا الله ... ما أهون الشعرة التي تفصل بين الأشياء ... التي تخضع لمشيئة الملك ومزاجه ؟ أصبحنا .. نعرف جيدا الطريقة التي يتبعها النظام .. نعرف متى نصمت , ومتى نتكلم , وكل شئ بمقدار . فنحن لسنا سوى "طرائد سجينة"بين أيدي الجلاد العابثة , ومتى كانت الطريدة تصدق صيادا وتثق به ؟ ومع كل هذا ... فأنا في الثامنة عشر من عمري ,أمتلئ عزيمة وتصميما على الصمود والمقاومة ... موقفنا المقاوم والمتحدي يعني أننا نتصدى بكل عزم وتحد لكل أنواع العقاب الذي يريد الملك به أن يكسر شوكتنا , ويحني رؤوسنا . ولكن لا , لقد خاب ظنه , لأننا آل أوفقير , لا نموت إلا وقوفا . إنه قدرنا ,وخيارنا الوحيد , لا مجال أبدا لأي مساومة أو مقايضة . تصف مليكة أحد أروع لحظاتها في السجن قائلة : فجأة أتاني إلهام داخلي كبير ,ورحت أقص عليهم إحدى القصص , ومن خلالها كنت أحدثهم عن الحياة والحب .... وأحلق بهم بعيدا ...لقد ابتدعت مسلسلا إذاعيا .. أحمل الميكروفون بيدي وأبتعد عن كل ما حوالي إلى عوالم أصنعها بنفسي . وأشد لحظات الرعب سطوة وصفتها قائلة : كان زوار الليل , بعدما ألفنا وجودهم وحضورهم , قد اختفوا إلى غير رجعة ... وكان القلق يتملك أمي . فكل ليلة بينما هي تقرأ على ضوء المصباح , كانت تشعر بلفحة أنفاس تداعب وجهها وبأحد ما إلى جانبها . غريب هو الإحساس الذي ينتابنا عندما نبعث على الحياة من جديد .... ها نحن أخيرا نحصد ثمرة مثابرتنا وإصرارنا . من بين الركام نجحنا بالعبور من الفجوة إلى الجهة الأخرى ما أروع الشعور بالحرية . ما أن انفتحت أبواب الحدائق حتى بدأ قلبي يخفق بسرعة لمرآها , إنه لشعور هائل لا ينسى .إنها لن تغلق علينا أبدا بعد اليوم . فلتسقط الأقنعة ... لم نعد نؤمن بشئ ...؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق